صعود اليمين المتطرف في أوروبا- الأسباب، التداعيات، واستراتيجيات ما بعد الشعبوية

المؤلف: حسن أوريد10.24.2025
صعود اليمين المتطرف في أوروبا- الأسباب، التداعيات، واستراتيجيات ما بعد الشعبوية

أفرزت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، التي جرت بين السادس والتاسع من حزيران/يونيو الجاري، صعودًا للأحزاب اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء القارة. وشكّل تصدّر حزب التجمع الوطني اليميني في فرنسا لهذه الانتخابات زلزالًا مدويًا في الساحة السياسية الفرنسية. وعلى إثر هذه النتيجة، اتخذ الرئيس الفرنسي قرارًا جسورًا بحل الجمعية الوطنية، والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة الشهر المقبل.

أعقب هذا القرار موجة من المظاهرات الحاشدة، سعيًا لعرقلة تصدّر حزب التجمع الوطني، في مشهد يعيد إلى الأذهان ذكريات الانتخابات الرئاسية لعام 2002، حين تمكن المرشح اليميني جان ماري لوبان، والد الزعيمة الحالية للتجمع الوطني مارين لوبان، من الوصول إلى الدور الثاني في مواجهة جاك شيراك، مُقصيًا بذلك المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان. حينها، اصطفت القوى السياسية المختلفة في صف واحد لصدّ تقدم مرشح اليمين المتطرف.

إلا أن السياق الراهن يبدو مغايرًا؛ ففي الماضي، كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة تُعد حالة استثنائية، بينما اليوم، وصلت هذه الأحزاب إلى سدة الحكم في العديد من الدول الأوروبية، مثل النمسا والمجر وجمهورية التشيك وبولندا وسلوفينيا والسويد وإيطاليا، وهي الآن تجد نفسها مدفوعة بريح مؤاتية وتيار جارف، ومختلف الاستحقاقات الانتخابية تشير إلى تنامي نفوذها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الانتخابات التشريعية الهولندية التي جرت في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023.

لا يمكن إغفال سؤال محوري حول الآثار المترتبة على صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة. أولًا، على مستوى مجتمعاتها الداخلية، حيث تقوم هذه الأحزاب على رفض الآخر وتبني شعارات مثل "أوروبا بيضاء ومسيحية". وثانيًا، على مستقبل الاتحاد الأوروبي، نظرًا لأن هذه الأحزاب تاريخيًا تتبنى النزعة السيادية، وتعارض "ديكتات بروكسل".

كان الاعتقاد السائد أن شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة ستتراجع في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، لارتباط بعض هذه الأحزاب بروسيا، لكن نتائج الانتخابات الأخيرة في دول مثل المجر وفرنسا والسويد وإيطاليا وهولندا، بالإضافة إلى التقدم الذي أحرزه حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب فوكس في إسبانيا، نسفت هذه التوقعات.

لا يمكن التغاضي عن التداعيات الاجتماعية والسياسية التي ستشهدها الدول الأوروبية نتيجة لاختراق الأحزاب اليمينية المتطرفة، إذ تتبنى هذه الأحزاب سياسات حمائية اجتماعية (معارضة للهجرة) وثقافية (التركيز على الدين واللغة وقراءة معينة للتاريخ)، مما قد يؤثر على الوئام الاجتماعي والتعايش السلمي.

الأمر الآخر الذي يثير الجدل والقلق هو أن هذه الأحزاب تشكك في المشروع الأوروبي، وتضع مستقبل الاتحاد الأوروبي، الذي يُعد أهم إنجاز أوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، موضع تساؤل. ورغم أن خطاب هذه الأحزاب قد تطور، فلم تعد تدعو صراحة إلى الخروج من الاتحاد، بل إلى إصلاحه من الداخل، كما يفعل فيكتور أوربان في المجر وجورجيا ميلوني في إيطاليا، إلا أن صعودها سيترك بصمته على هيكلة الاتحاد الأوروبي.

علاوة على ذلك، قد يكون لصعود اليمين المتطرف تداعيات خارج أوروبا، إذ تدعم هذه الأحزاب الأنظمة السلطوية في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وتلك التي تنتهج سياسات صارمة للتصدي للهجرة غير الشرعية. ومن الأمثلة على ذلك علاقات إيطاليا مع تونس، ودعمها لها مقابل قيامها بمكافحة الهجرة. كما أن هذه الأحزاب تدعم إسرائيل وترتبط بعلاقات وثيقة مع حزب الليكود الحاكم.

إذًا، نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة ليست شأنًا أوروبيًا محضًا، بل هي جزء من موجة عاتية، كما يصفها خبراء السياسة، تعود جذورها إلى الأزمة المالية لعام 2008 وأزمة الهجرة عام 2015، وتداعياتهما الاجتماعية، مثل تنامي خطاب الكراهية ومعاداة الأجانب، وعلى رأسها الإسلاموفوبيا.

إن صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لما يسميه البعض "الهيمنة الثقافية"، أو استخدام وصفة غرامشي ولكن في سياق يميني، أي أنه لا يكفي السيطرة على المؤسسات، بل يجب التأثير في العقول والقلوب، أو ما يسميه المنظر الفرنسي آلان دو بونوا "الغرامشية اليمينية".

لتحقيق ذلك، تبنت الأحزاب اليمينية استراتيجية للتأثير في الثقافة والسياسة عبر وسائل مختلفة، مثل التلفزيون والصحف ودور النشر واختراق الجامعات، بالإضافة إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والثورة الرقمية، أو ما يسميه عالم الاجتماع الإيطالي جوليانو دامبولي بـ "مهندسي الخراب"، أي القوة التقنية الخفية التي تؤثر في الرأي العام وتوجهه.

ما بعد الشعبوية

يشهد التيار الشعبوي تطورًا يصفه بعض الباحثين السياسيين بأنه "ما بعد الشعبوية"، أو الموجة الثانية من الشعبوية، ويشيرون في هذا السياق إلى تولي جورجيا ميلوني، من حزب إخوة إيطاليا، رئاسة الحكومة في إيطاليا في أيلول/سبتمبر 2022، وتأثير ذلك على الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى في أوروبا، وذلك لأسباب تتعلق بالثقافة السياسية الأوروبية، حيث تعتبر إيطاليا دائمًا مختبرًا سياسيًا للقارة.

تقوم "وصفة ميلوني" على تشكيل تحالف يميني واسع يضم اليمين المتطرف واليمين التقليدي، مع العلم أن اليمين التقليدي كان دائمًا حذرًا من اليمين المتطرف. كما أن شعبوية التحالف اليميني (لا ليغا) لم تجد غضاضة في التحالف مع "حركة خمسة نجوم" اليسارية، وهو الأسلوب الذي ترفضه ميلوني. وتدعو ميلوني أيضًا إلى "أممية شعبوية"، وهو ما بادرت إليه بعد انتخابها مباشرة، من خلال إنشاء تنظيم "مواطنو أوروبا" في مدريد في تشرين الأول/أكتوبر 2022، بهدف تجاوز ما وصفته بـ "طوباوية اليسار"، والتركيز على الهوية من أجل "أوروبا بيضاء ومسيحية".

لكن اللافت في أداء ميلوني السياسي هو نزعتها البراغماتية، أو ما يسميه المراقبون بـ "الاعتدال"، وهو ما تجلى في عملها داخل الاتحاد الأوروبي والتعبير عن توجهها الأطلسي، بعيدًا عن التوجهات السابقة التي كانت سيادية وقريبة من روسيا. ومن جهة أخرى، تعتمد ميلوني على عدم معاداة التكنوقراطية السيادية. وتستوحي مارين لوبان في فرنسا من "وصفة ميلوني"، من خلال تنصلها الظاهري من حزب التجمع الوطني وتسليم قيادته إلى الشاب جوردان بارديلا.

وإذا كانت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية قد وضعت صورة ثلاث نساء على غلافها واعتبرتهن صانعات مستقبل الاتحاد الأوروبي، وهن جورجيا ميلوني ومارين لوبان ورئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، فإن ميلوني تظل هي القائدة التي تؤشر على الموجة الثانية من الشعبوية، أو ما بعد الشعبوية، بعد الزخم الأولي الذي أحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة.

لقد بدأت بالفعل حقبة "ما بعد الشعبوية"، وهي نسخة متطورة من الشعبوية الجامحة، ولا يوجد ما يشير إلى أنها ستتلاشى قريبًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة